أبو خالد: لا يُمكِنُ استئصالُ لحظاتِ الألمِ من الذاكرةِ

أبو خالد مِن مُدرِّسِ لغةٍ عربيّةٍ في سوريّا إلى بائعٍ على بَسطَةِ جُلُودٍ في الأردُن

خالد العجمي – الأردن

“اللجوء هبة الحياة لمن لم يدركهم أجل محتوم، ربما ليحفظوها أو لتحفظهم”. بهذه الكلمات استقبلني أبو خالد، أحدُ اللاجئين السوريّين، وواحدٌ من كُثْر لم تصدّه العوائق عن النجاح، والهروب من الموت.

في بيته الصغير ذي الفناء الواسع، تنتشر قوارير النباتات المنزلية بجانب السور، على “مساطب” من البلوك والخشب، وتتوسط الفناء المصبوب بالإسمنت شجرة زيتون ضخمة قارب طولها سطح المنزل، وتتحلّق تحتها عدة كراسيَّ بلاستيكية حول طاولة معدنية، وفوق الطاولة إبريق للماء وآخر للعصير، ترحيبًا بي، واستعدادًا لمقابلته تحت ظلّ الشجرة.  

فاجأني أبو خالد، وهو على مشارف السبعين، ويعاني الضغط والسكري، بهمّته العالية، وبشاشة وجهه، على الرغم من جوٍّ خيّم عليه حنينٌ فاض به قلبِه، وقال: “لا يمكنُ استئصال لحظات الألم من الذاكرة”.

وضع يده على جبينه متأملاً الأرض، محاولاً بذلك إخفاء دمعةٍ مسحها بطرف دشداشته الكريمية اللون، وتابع: “حينَ قُصفَ البيتُ على رؤوس من فيه، بيتنا الذي استغرق سنواتٍ لبنائه على النحو الذي نهوى أنا وزوجتي التي أحبّته، كما لو أنها أرادته قبرًا لها، فلم يدع لها فرصة…، فأحالها هيَ وقلبي إلى دمارٍ مشؤوم”.

وأضاف موضحا مع تنهيدة حارة تخرج من أعماق صدره “سُرقت مني هي وأولادي الاثنين أمام عينيَّ ولم أستطع فعل شيء. وعلى الرغم من أنّنا تجاوزنا هذه الأمور بإيماننا وعملنا، واستطعنا محو هذه الذكرى الأليمة من ذاكرة أحفادي الأطفال، إلّا أنه لا يمكن إنكار هذه اللحظات، لأنها أسكنتنا جميعًا [يقصد السوريين] في رِحاب الفقد والأسى، نتجرّع مجبورين مع من نُحبّ مُرَّ الغياب”.

أبو خالد، مدرّسَ اللغة العربيّة، عرفته أجيالٌ كثيرة من محافظة حمص، وكان قد غادرها في خريفِ 2012، بصحبة أحفاده السبعة، بعد أن ذاقوا ويلات الحرب، وتقطّعت أوصال أسرتهم، وفقد فيها زوجته وابنيه الاثنين وزوجتيهما، وثلاثة من أحفاده، وبقي له منهم سبعة، أما ابنته الوحيدة فقد لجأت مع زوجها وأولادها إلى تركيا.

عبَّر عنها بأسى عميق: “أحسستُ كأنَّ قلبي انفطر، وأنَّ الحِملَ بات أثقلَ، وأنا أشاهد أحفادي اليتامى، ينظرون إليَّ نظرةً لا تفسير لها إلا أنني أصبحتُ أملهم الوحيد”.

وما أن ذكرنا حمصَ حتى باغتنا بتنهيدة عميقة شرحت كثيرًا  مما يجول في خاطره، وقال متأسّفًا: إنه لم يكن ليرحل منها لولا ظروف الحرب الاستثنائيّة التي أجبرته على اللجوء، وركوب الأخطار، وتعريض حياة الأطفال للخطر.

أردف وهو يتأملهم جالسين حولنا: “عشتُ طوال حياتي في حمص، أحفظها شارعًا شارعًا، ولي في أزقّتها القديمة المتضوّعة بالياسمين حكايات كثيرة، يصعبُ محوها من الذاكرة”.

وعن طريق سفره إلى الأردن، قال بنبرة مرتجفة وصوتٍ مرتعد: “طريقي إلى الأردنّ كان ثقيلًا بحجم الحزن الجاثم على صدري بعد فقد زوجتي، المرأة التي طالما أحببتها وأحبّتني، هي وابنيّ الاثنين—حين خسرتهم شعرتُ كأنّما أصابني الشلل بالكامل.

“وددتُ لو أن زوجتي أمامي لأشكو لها ألم الحرقة الذي يعشّش في قلبي، والآن ها أنا أراها في وجوه أحفادي، الذين كلّما حدثتهم عنها لمعت عيونهم بخجلٍ طفوليّ، وأشرقت ابتساماتهم الدافئة”، بعضهم يتذكرها، وآخرون كانوا صغارًا آنذاك. 

بداية أقام أبو خالد وأحفاده في مخيّم لللاجئين في الأردن، لكن عيشة المخيم كانت قتلًا لأنفسهم بقسوتها وضيقها، وشعورهم بأنهم سجناء فيه، فما أن مضى شتاء عام 2013، حتى استطاع أبو خالد الانتقال بأحفاده إلى أحد الأحياء السكنيّة داخلَ مدينة إربد.

يحدثنا عن بيته هذا فيقول: “استأجرته بسعر غالٍ شيئًا ما، لكني أحببته لأنه يذكّرني ببيتي في حمص، باستقلاليته، وسعته، وهدوء منطقته، وبشجرة الزيتون التي تزيّنه، وأخذت أرممه وأحسنه، وأحسّنه، لنعيش فيه وأحفادي”.

وتابع يصف البيت: يتكون من ثلاثة غرف للنوم، وفيه غرفة صفية، اتخذتها لتدريس أحفادي، وعدد من أبناء الحي، مقابل مبلغ زهيد، يساعد في الإنفاق على الأسرة، مع مخصصات مفوضية اللاجئين، إضافة إلى دريهمات تأتيني من بسطة لبيع الجلديات.

طلبت من أبي خالد الدخول إلى غرفة الصف—مساحتها 4×5م، وفيها سبورة، وكراسيّ، مطلية باللون الأبيض، وتغطيها سجادة كبيرة. ثم سألته وهو يهم بالجلوس على أحد الكراسي:

-متى حَفِظتَ القرآنَ الكريم؟

       – حَفِظتُ كتابَ اللهِ في السّادِسة، وحَفَّظتُه لأجيالَ عِدّة في سوريّا

  • هل تُدَرِس الأطفال هنا وحدك؟
  • في الصباح أحفّظ الأولاد القرآن، وفي المساء يساعدني في تدريس المواد العلمية حفيدي ياسر، طالب جامعي في التاسعة عشرة من عمره.

كان في الغرفة مكتبة صغيرة، تصفحت بعض كتبها، وسألته:

  • هل حملت هذه الكتب من حمص؟
  • تنهّد تنهيدة طويلة، وقال: كان لي مكتبة كبيرة، جمعتها منذ كنت طالبًا، ولكنها احترقت في الليلة المشؤومة. كانت كل حياتي، أخلو معها لساعات أستمتع بالقراءة والكتابة. أكثر ما يحزنني أن كتاباتي ورواياتي التي كتبتها قد ذهبت كلها.
  • ألم تسجلها على الكمبيوتر؟
  • مع الأسف، لا أجيد استخدامه. لكني أحاول حاليًّا استذكار بعضها وأعيد كتابته.  

استأذنته في إلقاء نظرة على غرف البيت الأخرى. كانت الغرف مرتبة بأسرتها، وخزائنها، وستائرها، وفرشها، بعناية. وكان المطبخ كذلك نظيفًا مرتبًا، تفوح منه رائحة زكية.

  • كيف تتدبرون أمر طعامكم؟
  • أتولى إحضار المواد الغذائية، ثم أطبخ ويساعدني الأولاد والبنات. وبعد الانتهاء من الطعام تتولى البنات الثلاث تنظيف الأواني والمطبخ.

عدنا إلى ظلّ الزيتونة. وطلبت إليه أن يحدثني عن ابنيه وابنته. فطلب من الأولاد الدخول إلى البيت، ثم طلب مني الاقتراب وحدثني بصوتٍ كسير: كان بيتي مكوّنًا من طابقين: كنا أنا وزوجتي نسكن في الطابق الأرضي، وابناي (خالد، وماجد) متزوجان، يسكن كل منهما في شقة في الطابق الثاني. 

كان خالد موظفًا، ولديه ابنان و٤ بنات، أما ماجد فكان تاجرًا، ولديه ابنان وابنتان. وبنتي ساجدة كانت تسكن قريبًا منا، ولديها ثلاث بنات وولد. كان أحفادي الكبار ينامون عندنا، والصغار عند والديهم، فبيتنا كان واسعًا، وغرف آبائهم فارغة.

في الليلة المشؤومة، كنا نيامًا، ولم يكن هناك ما ينذر بوجود قصف، حين دوّى انفجار هز أركان المنزل، نهضت سريعًا لأجمع أحفادي النائمين، وأؤمنهم تحت الدرج، فيما أسرعت زوجتي إلى الطابق العلوي تتفقد سكانه، وما أن وصلت إلى منتصف الدرج حتى سقطت عليها قطعة من السقف، فخرّت صريعةً.

حينها علمت أن سكان الطابق العلوي هم أقرب إلى السماء، وأبعد ما يكونون عني، فجمعت أحفادي وركضت إلى بيت ابنتي، واحتضنتها وأنا أبكي أمها وإخوتها.

لم تمضِ سوى بضعة أيام حتى جمعت أحفادي وتوجّهت بهم إلى الأردن في رحلة عناء وخوف بين مناطق النفوذ ونقاط التفتيش، مخفين وثائقنا وهوياتنا، ملتفين بعضنا حول بعض، حتى دخلنا الحدود الأردنية، وسجلنا أسماءنا في سجل اللاجئين.

أما ابنتي فاختار زوجها أن يلحق بأهله الذين سبقوه إلى تركيا، فرافقته، وحملوا أبناءهم، فتفرقت القلوب من بُعد الفرقة. لكننا ما زلنا على تواصل معها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

يسافر الناس للعمل وكسب الرزق، لكن سفر أبو خالد كان للحفاظ على أرواح أحفاده وليتمكَّن من رعايتهم وتولّي شؤونهم، بعد أن دبّ الهلع والجزع في قلوبهم، ورأوا والديهم وجدتهم يموتون أمام نواظرهم.

وبغصّة بالغة، وصف أبو خالد مشهد السفر في خياله: “سفري كان رغمًا عن إرادتي، إنّما تركت حمص وسوريا مجبرًا، وودّعتُ أجملَ ذكرياتي كي لا أكون أنانيًّا، كان النزوح أفضل ما يمكن فعله بحثًا عن مستقبلٍ نرجوه أفضل لهذا الجيل القادم”.

  • سألته ودمعة تنحدر من عينيّ: هل تأمل بالعودة إلى حمص؟
  • مستقبل أحفادي أهم من حياتي، فلن أعيش من عمري أكثر مما مضى. لكنني أتوق إلى “شمة” من أرض حمص، فإن لم أدركها أرجو أن تضمّ تربتُها عظامي؛ فلطالما عانقتها لأكثر من ستين سنة!

رافقته إلى مكان عمله، استقبله الجميع ببشاشة وترحيب، يسألون عنه. كان عمله بسطة خشبية يبيع فيها الجلديات والحقائب، لكني لا أظنها تنتج ما يقيم أود أسرته؛ على أني فهمت منها شيئًا أكثر من ذلك، فحتى لو تنتج كثير مال فإنها تعني له الحياة ومخالطة الناس، هروبًا من الوحدة والذكريات.

لم أطل الجلوس أمام بسطته، فاستأذنته لأغادر، فنهض بهمة عالية عن كرسيه، وأقبل عليَّ بوجه بشوش، وقال: أريد أن أقول لكِ شيئًا مهمًّا. سنعود يومًا إلى حمص، فلم يكن اللجوء يومًا إلا تحويلة على الطريق، ستعود لتلتقي به مهما كان طولها.